أفضل أوقات للدراسة

أفضل أوقات الدراسة

تُعدّ مسألة تحديد أفضل أوقات الدراسة من الموضوعات الحيوية التي تشغل حيزًا كبيرًا في مجالات علم النفس التربوي، وعلم الأعصاب، وحتى في الدراسات التي تتناول الأداء المعرفي للطلاب. فاختيار الوقت المناسب للمذاكرة لا يعتمد فقط على التفضيل الشخصي، بل يخضع أيضاً لجملة من العوامل الفسيولوجية والنفسية والبيئية التي تؤثر بشكل مباشر في القدرة على التركيز، واستيعاب المعلومات، وتحقيق الكفاءة التعليمية المطلوبة. وفي هذا المقال، سنستعرض بشكل مفصّل، مدعوم بالأدلة والبحوث العلمية، كيف يؤثر الوقت على عملية التعلم، وما هي الفترات الزمنية التي توصف بأنها “مثالية” للدراسة، مع التركيز على الفروقات الفردية، والدورات البيولوجية، والعوامل الخارجية التي قد تساهم في تحسين أو إعاقة العملية التعليمية.

إيقاع الساعة البيولوجية وتأثيره على التعلم

الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm) هي الآلية الداخلية التي تنظم العمليات الفسيولوجية والسلوكية خلال اليوم، مثل النوم والاستيقاظ، درجة حرارة الجسم، إفراز الهرمونات، ومستويات اليقظة والانتباه. وهذه الدورة اليومية تتأثر بشكل رئيسي بالضوء والظلام، وتلعب دورًا محوريًا في تحديد الأوقات التي يكون فيها الدماغ في ذروة نشاطه العقلي.

تشير الدراسات إلى أن القدرات الإدراكية والذهنية تتفاوت على مدار اليوم وفقاً لنشاط هذه الساعة، حيث ترتفع مستويات التركيز والانتباه عادةً في ساعات الصباح، بينما تتراجع تدريجيًا مع اقتراب ساعات المساء. ومع ذلك، هناك اختلافات فردية كبيرة مرتبطة بالنمط الزمني للشخص؛ فهناك من يُعرفون بـ “الطيور الصباحية” الذين يفضلون العمل في الصباح الباكر، و”الليليون” الذين يكونون أكثر إنتاجًا في المساء.

الدراسة في الصباح الباكر

يعتبر كثير من الخبراء أن الصباح الباكر هو أفضل وقت للدراسة، خصوصًا في الفترة الممتدة بين الساعة 5 صباحًا إلى 9 صباحًا. في هذه الساعات، يكون الدماغ قد حصل على قسط وافر من الراحة، وتكون مستويات الكورتيزول في الدم مرتفعة نسبيًا، ما يحفز النشاط الذهني، ويزيد من قدرة الفرد على التركيز.

مميزات الدراسة الصباحية:

• صفاء ذهني: العقل يكون خاليًا من التشتت الذي يرافق المهام اليومية.

• الهدوء البيئي: غالبًا ما يسود الهدوء في ساعات الصباح الباكر، مما يخلق بيئة مثالية للتركيز.

• إمكانية الاستفادة من الضوء الطبيعي: مما ينعكس إيجابًا على المزاج والإنتاجية.

ومع ذلك، تتطلب الدراسة الصباحية نظام نوم منتظم واستيقاظ مبكر، وهو ما قد لا يكون مناسبًا لجميع الأفراد، خاصة فئة الشباب الذين غالبًا ما يتأخرون في النوم بسبب التزامات اجتماعية أو دراسية.

الفترة المتوسطة (منتصف النهار)

تُعتبر الفترة الممتدة من الساعة 10 صباحًا وحتى الساعة 2 ظهرًا من الفترات الجيدة للدراسة، حيث يكون الجسم قد استيقظ تمامًا من خمول الصباح، وتكون القدرات الذهنية في حالة استقرار. خلال هذه الفترة يمكن معالجة المعلومات التحليلية المعقدة أو الدراسة التي تتطلب التركيز طويل المدى.

لكن ما يحد من فعالية هذه الفترة في بعض الأحيان هو انشغال الطلاب بالأعمال أو الدروس النظامية، أو تأثرهم بالروتين اليومي وضغوط الحياة، مما قد يقلل من الطاقة الذهنية المتاحة للمذاكرة الذاتية.

الدراسة بعد الظهر وحتى المساء

تشير بعض الأبحاث إلى أن الفترة الممتدة من الساعة 4 مساءً إلى 7 مساءً تُعد وقتًا مناسبًا لمراجعة المواد الدراسية واستذكار ما تم تعلّمه مسبقًا. في هذه الساعات، يبدأ الدماغ في التراجع عن ذروة تركيزه، إلا أن المهام التي تعتمد على التكرار والاستذكار يمكن أن تتم بكفاءة، خاصة إذا كانت المعلومة قد تم تعلمها في وقت سابق.

كما أن هذا الوقت يتناسب مع الطلاب الذين يحتاجون إلى فترات استراحة بعد انتهاء دوامهم المدرسي أو الجامعي، ما يجعلهم أكثر استعدادًا ذهنيًا ونفسيًا للدراسة.

المذاكرة الليلية: ما لها وما عليها

يفضل بعض الطلاب الدراسة في الليل، حيث يجدون في الهدوء والسكون محفزًا للتركيز. وتمتد هذه الفترة عادة من الساعة 9 مساءً وحتى منتصف الليل أو ما بعده بقليل. هذا النمط شائع لدى من يطلق عليهم “الليليون”، الذين تنشط أدمغتهم في ساعات الليل المتأخرة.

إيجابيات المذاكرة الليلية:

• الهدوء الكامل وانخفاض الضوضاء.

• قلة المشتتات الاجتماعية أو العائلية.

• إمكانية التعمق في المواضيع المعقدة دون انقطاع.

سلبيات المذاكرة الليلية:

• انخفاض الطاقة البدنية نتيجة اليوم الطويل.

• احتمالية اختلال دورة النوم مما يؤثر سلبًا على الإدراك في اليوم التالي.

• تضاؤل الاستفادة من الضوء الطبيعي، والذي له دور في تحسين الأداء المعرفي.

عوامل مؤثرة في تحديد الوقت المثالي للدراسة

لا يمكن الجزم بأن وقتًا معينًا هو الأفضل للجميع، فذلك يختلف من شخص إلى آخر. ومع ذلك، هناك مجموعة من العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تحديد الوقت الأنسب للمذاكرة:

كيف يمكن الاستفادة من أفضل الأوقات للدراسة؟

لتعظيم الاستفادة من الفترات الزمنية المختلفة، من الضروري إعداد جدول دراسي مرن يتماشى مع الدورة اليومية للشخص، مع مراعاة الأمور التالية:

• تقسيم المهام إلى فترات زمنية قصيرة لا تتجاوز 45 دقيقة، يليها استراحة قصيرة.

• تخصيص المواد الصعبة لأوقات الذروة المعرفية، وترك المهام الخفيفة للفترات الأقل نشاطًا.

• تجنب الدراسة بعد وجبات الطعام مباشرة.

• استخدام تقنيات التنشيط العقلي مثل تمارين التنفس أو المشي القصير قبل بدء الدراسة.

• توثيق الملاحظات والمراجعة بعد الانتهاء من المذاكرة لتثبيت المعلومات.

التفاوتات الفردية وأهميتها

هناك طلاب يمكنهم الدراسة بكفاءة في أي وقت، بشرط توفر التركيز والإرادة والبيئة المناسبة، بينما يعتمد آخرون بشكل صارم على أوقات معينة يتفوقون فيها معرفياً. لذلك من المهم على الطالب أن يجرب أوقاتًا مختلفة، ويسجل ملاحظاته عن الأداء خلال كل فترة، ثم يحدد “النافذة الذهبية” له شخصياً، ويضع جدولاً متسقًا بناءً على ذلك.

أثر الروتين والانضباط الزمني

أحد العوامل التي تميز المتفوقين أكاديميًا هو التزامهم بروتين يومي صارم يتضمن أوقاتًا محددة للمذاكرة، والنوم، والاستراحة. الدماغ البشري يحب التكرار والتنظيم، وكلما ارتبط وقت معين بنشاط دراسي معين، زادت قدرة الفرد على دخول “حالة التركيز العميق” بسرعة أكبر. هذه الحالة، المعروفة باسم “التدفق” (Flow)، هي من أهم الظروف التي تعزز الأداء التعليمي.

أهمية الوقت مقارنةً بجودة الدراسة

رغم أهمية اختيار الوقت المثالي، فإن جودة الدراسة تبقى العامل الحاسم في تحقيق نتائج إيجابية. يمكن للطالب أن يدرس في أي وقت من اليوم، لكن إذا كانت المذاكرة تفتقر إلى الفهم، والتركيز، وتنظيم المعلومات، فإن النتائج ستكون ضعيفة. ولذلك، فإن الوقت الجيد يجب أن يقترن دائمًا بأساليب تعلم فعالة، مثل التلخيص، وربط المعلومات، والتكرار الذكي، وتقنيات الذاكرة طويلة الأمد.

خاتمة تحليلية

يتبين من كل ما سبق أن أفضل أوقات الدراسة ليست قاعدة ثابتة تنطبق على الجميع، بل هي نتيجة لتفاعل معقد بين الإيقاع البيولوجي للفرد، ومتطلبات الحياة اليومية، وظروف البيئة المحيطة، ومستوى التحفيز الذاتي. ومع ذلك، يمكن القول إن ساعات الصباح المبكر تمثل خيارًا ذهبيًا لكثير من الطلاب، تليها فترات منتصف النهار والعصر، بينما تبقى الساعات الليلية خيارًا انتقائيًا يعتمد على نمط حياة الطالب. إن الإدراك الواعي لهذه الديناميكيات، مع بناء جدول دراسي يتماشى مع الظروف الشخصية، هو الخطوة الأولى نحو تحقيق التفوق الأكاديمي المستدام.

المراجع:

1. Schmidt, C., et al. (2007). “Circadian preference and cognitive performance in early and late chronotypes.” Neuropsychobiology, 56(3), 140–144.

2. Monk, T.H., et al. (2004). “Circadian rhythms in human performance and mood.” Chronobiology International, 21(3), 435–443.